""علم البيان
الفصل الثاني: التشبيه والتمثيل
المقدمة في التعريفات
المعنى اللغوي:
التشْبيه والتمثيل في اللّغة مترادفان معناهما واحد، وهو بيان وُجود صفة أو أكثر في المشبَّه مُشابِهَةٍ لمَا يَظْهَرُ من صفاتٍ في المشبَّه به.
والتشابه اشتراك شيئين فأكثر في صفةٍ أو صفاتٍ متماثلات، وقد يؤدّي هذا الاشتراك إلى اللّبْس وعدم القدرة على التَّعْيين، إذا كان المطلوب فرداً معيّناً أو صنفاً معيّناً فيه هذه الصفة أو الصفات.
المعنى الاصطلاحي:
المعنى الاصطلاحي عند البيانيين للتشبيه والتمثيل مطابق للمعنى اللّغوي، وقالوا في تعريفه أقوالاً أحسنها:
"الدّلالة على مشاركة شيءٍ لشيءٍ في معنىً من المعاني أو أكثر على سبيل التطابق أو التقارب لغرضٍ ما".
وخصّ البيانيون لفظ "التمثيل" بالتشبيه المركّب الذي يكون وجه الشبه فيه منتزعاً من متعدّد.
المقولة الأولى: التشبيه
هو الدلالة على مشاركة شيءٍ لشيءٍ في معنىً من المعاني أو أكثر على سبيل التطابق أو التقارب لغرضٍ ما ولا يكون وجه الشبه فيه منتزعاً عن متعدد.
وله أركان وتقسيمات متعددات على ما سيأتي بيانها إن شاء الله.
(1)
أركان التشبيه
من الواضح بداهة أنّ لكلّ تشبيهٍ أركاناً أربعة تدلُّ عليها ألفاظٌ تُذْكر في التشبيه، وقد يحذف بعضها لغرضٍ بياني:
الركن الأول: المشبَّه.
الركن الثاني: المشبَّهُ به.
الركن الثالث: أداةُ التشبيه، وتأتي أداة التشبيه حرفاً، أو اسماً، أو فعلاً.
* فالحرف له لفظتان:
(1) "الكاف ويليها المشبّه به مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول):
{وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ...} [الآية:77].
(2) "كأنّ" ويليها المشبّه به، وتفيد التشبيه إذا كان خَبَرُها جامداً أَوْ مُؤَوّلاً بجامد، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (لقمان/ 31 مصحف/ 57 نزول):
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
قالوا: والتشبيه بكأنّ أبلغ من التشبيه بالكاف، لأنّها مركّبة من الكاف وأَنَّ.
* والاسم له ألفاظ، منها: "مِثْل - شِبْه - شبِيه - نظير - مَثِيل" ونحوها.
* والفعل له ألفاظ، منها: "يُشْبِه - يُمَاثل - يُنَاظر -" ونحوها من كُلّ ما يدلُّ على تشبيه بشيء.
الركن الرابع: وجْهُ الشَّبَه، وهو مَا لُوحِظَ عند التشبيه اشتراك المشبَّه والمشبَّه به في الاتّصاف به، من صفة أو أكثر، ولو لم يتساويا في المقدار، ولو كانت ملاحظةُ الاشتراك خياليّة غير حقيقيّة، كتشبيه رأس إنسانٍ منفرٍّ مُرْعبٍ برأس الْغُول، وتشبيه السّاحرة بأنّ وجهها كوجه شيطان.
أمثلة:
(1) قول المعرّي:
*رُبَّ لَيْلٍ كَأَنَّهُ الصُّبْحُ فِي الحُسْـ *ـنِ وَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ الطَّيْلَسَانِ*
لطيلسان: نوع من الأوشحة يُلْبَس على الكتف أو يحيط بالبدن، خالٍ من التفصيل والخياطة.
* فالمشبه في هذا التشبيه اللّيل الذي عناه المعرّي.
* والمشبه به الصُّبْح.
* وأداة التشبيه: "كأنّ".
* ووجه الشبه: "الْحُسْن" المصرّح به في عبارة "في الْحُسْنِ".
(1) قول المعريّ يخاطب ممدوحه:
*أَنْتَ كالشَّمْسِ في الضِّيَاءِ وَإنْ جَا * وَزْتَ كِيوَانَ فِي عُلُوِّ الْمَكَانِ*
كيوان: اسم لكوكب زُحَل أبْعَدِ الكواكب السّيارة بالنسبة إلى الأرض.
* فالمشبّه في هذا التشبيه هو ما دلَّ عليه لفظ "أنْت".
* والمشبَّهُ به ما دل عليه لفظ "الشمس".
* وأداة التشبيه "الكاف" في عبارة "كالشمس".
ووجه الشّبه ما دلّ عليه عبارة: "في الضياء".
(2) وقال آخر يخاطب ممدوحه:
*أَنْتَ كَاللَّيْثِ في الشَّجَاعَة وَالإِقْـ * ـدَامِ والسَّيْفِ فِي قِرَاعِ الْخُطُوب*
قِرَاع الْخُطُوب: أي: مصارعة الشدائد والتَّغَلُّبِ عليها.
في هذا البيت تشبيهان لمشبَّه واحد.
* فالمشبّه: "أنت".
* والمشبّهُ به "اللّيثُ في التشبيه الأول و "السّيف" في التشبيه الثاني.
* وأداة التشبيه "الكاف".
* ووجه الشبه "الشجاعة والإِقدام" في التشبيه الأوّل، و "قِرَاع الخطوب" في التشبيه الثاني.
(3) وقال آخر يصف الماءَ وهو يجري صافياً:
*كَأَنَّمَا الْمَاءُ في صَفَاءٍ * وقَدْ جَرَى ذَائِبُ اللُّجَيْنِ*
اللُّجين: الفضَّة.
* فالمشبّهُ: "الماء".
* والمشبَّهُ به: "ذَائِبُ اللُّجَيْن".
* وأداة التشبيه: "كَأَنَّما".
* ووجه الشبه: "الصفاء والجريان".
(2)
فنّ التشبيه ودواعيه
فنُّ التشبيه:
التشبيه فَنُّ جميل من فنون القول، وهو يدلُّ على دقَّة مُلاحظة الأشباه والنظائر في الأشياء، سواءٌ أكانت مادّيات تدرك بالحواس الظاهرة، أو معنويات، حتى الفكريات المحض، إذْ ينتزع منها لمَّاحُو عناصر التشابه بين الأشياء التي تدخُل في حدود ما يُعْلَم ولو لم يكن له وجودٌ خارج الأذهان، فيجدون بينها أجزاء يشبه بعضها بعضاً، على سبيل التطابق أو التقارب، فيُعبّرون عمّا لاحظوه من تشابُهٍ يشبه بعضها بعضاً، على سبيل التطابق أو التقارب، فيُعبّرون عمّا لاحظونه من تشابُهٍ بعبارات التشبيه، ويَحْسُن في ذوقهم الأدبيّ أنْ يُشَبّهوا ذا الصفة الخفيّة بذي الصفة الجليّة، نظراً إلى وجود جنس هذه الصفة أو نوعها فيهما، وأن يشبّهوا ذا الصفة الجليَّة بذي الصفة الأجلى، وأن يشبهّوا ذا الصفة الأقل أو الأضعف أو الأدنى، بذي الصفة الأكثر، أو الأَقْوَى، أو الأعلى، نظراً إلى التشابه في عين هذه الصفة أو نوعها أو جنسها فيهما.
ويُقْصَد التشبيه لتحقيق غرض بيانيٍّ فكريّ أو جمالي، أو فكري وجماليٍّ معاً.
ونزوع الأنفس إلى التشبيه هو إحدى فطرها الّتي فطرها الله عليها، مع قصور التعبيرات ذوات الدلالات المباشرات عن أداء المعاني المرادة أحياناً كثيرة.
لهذا نجد التشبيه موجوداً لدى كُلّ الأمم والشعوب، وفي كُلّ لغات الناس فصيحها وعامِّيها.
قال "المبرِّد" في كناية: "الكامل":
"التشبيه جارٍ كثيراً في كلام العرب، حتَّى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يُبْعِدْ".
وقال "أبو هلال العسكري" في "كتاب الصناعتين: النظم والنثر":
"التشبيه يزيد المعنَى وُضوحاً، ويُكْسِبُه تأكيداً، ولهذا أطبق جميع المتكلّمين من العرب والعجم عليه، وَلَمْ يستغن أحَدٌ عنه".
وتشبيه شيء بشيء يعتمد على وجود عُنْصِر تشابه بينهما، أو وُجود أكثر من عُنْصُر تشابه.
ففي هذا الوجود الكبير أشباهٌ ونظائر بحسب تقدير الله وإتقان صنعته.
ألَسْنَا نُلاحظُ في ظواهر الأشياء ممّا تُدْركُه الحواسُّ أشباهاً ونظائر في أجناسها، وأنواعها، وأصْنافها، وأفرادها؟.
ألَسْنَا نلاحظ مثل ذلك في طبائع الأشياء من كلّ ما خلَق الله من نبات، وماءٍ، ورياحٍ، ونارٍ، وقوى وطاقات، وغير ذلك ممّا بثّ الله في كونه من ذي حياة وغير ذي حياة؟.
ألَسْنَا نُلاحظُ مثل ذلك في طبائع النفوس وأحاسيسها، وسلوكِ ذوي الإِرادات الحرّة؟
إنّ الملاحظة الذكيّة تستطيع أن تتصيّد للشيء الواحد عدّة أشباه ونظائر من هذا الوجود الكبير.
ولا يشترط في الشبيه أن يكون مطابقاً من كلّ الوجوه، بل يكفي فيه أَنْ يُلْمَح منه جانبٌ فيه شَبَهٌ ما صالحٌ لأنْ يُشَبَّهَ به، بغية تحقيق غرضٍ من أغراض التشبيه البلاغيّة.
دواعي التشبيه:
يرجع اختيار أسلوب التشبيه في الكلام إلى الدواعي الرئيسة التالية:
الداعي الأوّل: استخدام الأسلوب غير المباشر للتعبير عن المراد، إذْ هو أكثر تأثيراً في النفوس من الأسلوب المباشر غالباً، وذلك في المجالات الأدبيّة، وفي الموعظة، وفي كثير من صُوَر الإِقناع، وفي نحو ذلك.
الداعي الثاني: ما في التشبيه من طُرُق متعدّدة، وصُورٍ كثيرة، تُعْطِي المعبّر البليغ مجالاً واسعاً لانتقاء ما يراه أكثر تأثيراً فيمن يوجّه له الكلام، أو أكثر إبداعاً، وهذا أمْرٌ يشعر فيه المتكلّم بلذّة الإِبداع والابتكار وإيجاد ما لم يُسْبَقْ إليه، وهي نزعة موجودة في طبائع الناس الفطريّة، تنمو عند الأذكياء والعباقرة، وتضمر عند غيرهم.
الداعي الثالث: ما في كثير من الصُّور التشبيهيّة منْ جمالٍ يُرضِي أذْواق المتلقّين وَيُمْتِعُهم، إذْ يُقَدّم لهم لوحاتٍ جماليّة مختلفة:
* فمنها ما تنتزعه الذاكرة اللّمّاحة من الطبيعة الجميلة في المدركات الحسّيّة كما هو، فيقيس الفكر عليه، ويشبه به.
* ومنها ما يجمع الفكر عناصره من الطبيعة، ويؤلّف الخيال بين هذه العناصر تأليفاً مبتكراً في صورة، ثم يقيس الفكر عليها ويشبّه بها.
* ومنها أشياء معنوية فكرية يصوّر لها الخيالُ صوراً ثمَّ يقيس الفكر عليها ويشبّهُ بها. وربّما يشبّه الفكر بها دون أن يتدخّل الخيال في تصوير صُورٍ لها.
(3) أغراض التشبيه
الأديبُ البليغ شاعراً كان أو ناثراً، كاتباً أو متحدّثاً، قد يختار في كلامه طريقة التشبيه ضمن ما يختار من طُرُق الكلام وأساليبه ليحقِّق به غرضاً أو أكثر من الأغراض التالية، سواء أكان ما اختاره تشبيهاً مفرداً أو مُركّباً، ويدخل فيه تشبيه التمثيل.
الغرض الأول: كون الصورة الّتي دلّ عليها التشبيه أكثر بياناً وأوضح دلالة وأدَقَّ أداءً من الكلمات التي تدلُّ بوضعها اللّغوي على المعنَى مباشرة، دون استخدام التشبيه.
الغرض الثاني: تقريب صورة المشبَّه إلى ذِهْنِ المتلقّي عَنْ طريق التشبيه، إذا كان وجْهُ الشَّبَهِ في المشبَّه به أكْثَر وضوحاً وأظْهَر، أو كان مقدارُه أعظم، كتشبيه القلوب القاسية بالحجارة.
الغرض الثالث: الإِمْتَاعُ أو الاستمتاع بصُورٍ جماليّة يشتمل عليها التشبيه، ففي كثيرٍ من التشبيهات الدقيقة المحكمة صُوَر جمالية لا تُوجَدُ في غيرها من طُرُق الكلام، فقولك: "ليلةٌ تمشي كالسلحفاة" أكثر إمتاعاً من قولك: "ليلة بطيئة المسير".
الغرض الرابع: الإِقناع بفكرة من الأفكار، وهذا الإِقناع قد يصل إلى مستوى إقامة الحجّة البرهانيّة، وقد يقتصر على مستوى إقامة الحجّة الخطابية، وقد يقتصر على لفت النظر إلى الحقيقة عن طريق صورةٍ مشابهة، ومنه تشبيه من يدعو غير الله بباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه.
الغرض الخامس: الترغيب بالتَّزْيين والتحسين، أو التنفير بكشف جوانب القبح.
فالترغيب يكون بتزيين المشبَّه وإبراز جوانب حسنه، عن طريق تشبيهه بما هو محبوب للنفوس مرغوبٌ لديها.
والتنفير يكون بإبْراز جوانب قُبْحِه، عن طريق تشبيه بما هو مكروه للنفوس، أو تنفر النفوس منه.
وقد يكون كلٌّ من الترغيب والتنفير عملاً إيهاميّاً مُعْتَمِداً على صناعةٍ كلاميّةٍ مُبَالَغٍ فيها.
الغرض السادس: إثارة مِحْور الطّمع والرَّغَب في النفس، أو مِحْوَرِ الخوف والْحَذر، إذا كان في المشبَّه مطامع تطمع فيها النفوس، أو مخاوف تحذرها.
كتصوير المنفق في سبيل الله بزارع الحبّ الّذي تُنْبت كُلُّ حبَّةٍ منه سَبْع سنابل في كلّ سنبلَةٍ مئةُ حبَّة.
وكتصوير أعمال الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، برماد اشتدتْ به الريح، فَسَفَتْهُ، فجعلته هباءً مُنْبَثّاً، فهم لا يقدرون على إمساك شيءٍ ممّا كَسَبُوا.
فَلَدى إِثارةِ مِحْوَرِ الطّمَع والرَّغَبِ في النفس يتّجه الإِنسانُ بمحرّضٍ ذاتيّ إلى ما يُرادُ توجيه له.
ولَدَى إثارة مِحْوَر الْخَوْفِ والْحذَرِ في النفس يبتَعِدُ الإِنسَانُ بمحرّضٍ ذَاتِيّ عمّا يُرادُ إبْعادُهُ عَنْه.
الغرض السابع: المدحُ أو الذَّمُّ، أو التعظيم أو التحقير.
كأن تمدح الشجاع بتشبيهه بالأسد، وتَذُمّ الجبان بتشبيهه بالأرْنب، وتذمّ الدّيُّوث بتشبيه بالخنزير.
وكأنْ تُعَظِّمَ جُودَ الجواد بتشبيهه بالبحر، وتحقّر خطبة بتشبيهها بنقيق الضفادع.
الغرض الثامن: شَحْذُ ذهن المتَلَقِّي وتحريكُ طَاقاتِه الفكريّة، أو استرضاء ذكائه، لتوجيه عنايته، حتَّى يتأمّل ويتفكّر ويَصِلَ إلى إدْراك المراد عن طريق التفكر.
كتشبيه الصراع بين الحقّ والباطل بصورة الغيث الغزير، الذي يجري سيلاً يملأ الوادي، والزبد الذي يطفو على سطحه، وما ينتهي إليه كلٌّ منهما، أمّا الزّبد فيذهبُ جُفاءً، وأمّا ما ينفع الناس فيمكُثُ في الأرض مُفيداً نافعاً.
ومثل هذه التشبيهات يخاطب بها الأذكياء، وأهل التأمُّلِ والنَّظَر والبحث العلميّ، والمتفكّرون.
الغرض التاسع: تقديم أفكارٍ كثيرة جدّاً ودقيقة، وهي ممّا يحتاج بيانُه عن غير طريق التشبيه كلاماً كثيراً يَصِلُ إلى عشراتِ الصفحات وأكثر من ذلك، فيَدُلُّ علَيْها التشبيه بأخصر عبارة، فالمشبّه به قد يكون بمثابة نموذجٍ مشهودٍ من نماذج الوسائل التعليميّة، فيكفي في العبارة أن يقال: مِثْلُ هذا.
الغرض العاشر: إيثار تغطية المقصود من العبارة بالتشبيه، تَأَدُّباً في اللَّفظ واستِحْيَاءً.
كتشبيه عمليّة التزاوج بوضع الميل في المكحلة.
الغرض الحادي عشر: بيان صفةٍ للمشبّه، عن طريق التشبيه.
* فمنه بيان إمكان وجود الصفة في المشبّه، إذْ هي في المشبّه به ظاهرة لا نزاع في وجودها فيه، ويرى المتلَقِّي عدم إمكان وجودها في المشبّه.
* ومنه بيان حقيقة الصِّفة، إذا كانت أمراً غير معروف في المشبَّه، لخفائها، فيأتي التشبيه فيكشف حقيقة هذه الصفة المجهولة.
* ومنه بيان مقدار الصفة قوةً وضعفاً، إذا كانت حقيقتُها معروفة، لكنّ مقدارها مجهول.
إلى غير ذلك من أغراض.
(4)
صفات وخصائص التشبيهات المثلى
يَحْسُن قبل الدخول في شرح أقسام التشبيه والتمثيل، أن يكون الدارس لهذا الفنّ من فنون الكلام عارفاً بالصفات الأساسيّة للتشبيهات الْمُثْلى، حتَّى لا يَظُنَّ أنّ كُلَّ تشبيه أو تمثيل هو من صور الأدب الرفيع، فربّ تشبيه أو تمثيل يُنْزِل من قيمة الكلام أدبيّاً وبلاغياً ولا يرفَعُهُ، وربّما يهوي به إلى الحضيض.
ومن الخير له أن يَدْرُسَ التشبيهات والأمثال القرآنية، وأنْ يَدْرُسَ تشبيهاتِ وأمثال الأدباء البلغاء، ليكتسب الذوق الرّفيع، الذي يُميِّز به بين الغثّ والسمين من التشبيهات والأمثال، وليكتسب المهارة على تدبّر النصوص وتحليل ما فيها من ذلك، وعسَى أن يكتسب مهارة الإِبداع في هذا المجال.
فمن الصفات الأساسيّة للتشبيهات المثلى ما يلي:
الصفة الأولى: دقَّةُ التصوير، مع إبراز العناصر المهمّة التي هي مقصود التشبيه.
الصفة الثانية: الابتكار، والابتعاد عن الاجترار والتكرار للتشبيهات المستعملة كثيراً في أقوال الشعراء والأدباء.
الصفة الثالثة: التنويع في أساليب التشبيهات والأمثال ضمن الكلام المتتابع، والابتعاد عن التزام الوتيرة الواحدة، والمتابعة على نَمَطٍ واحد.
الصفة الرابعة: صدق المشابهة بين المشبَّهِ، والمشبّه به، ويكفي لتحقيق صدق المشابهة ما يسمَّى "الصّدْق الفنيّ" أي: الصدق في إحساس صاحب الكلام ومشاعره.
الصفة الخامسة: ممّا يَرْتَقِي بالتمثيل إلى مستوى الذّروة، التصوير المتحرّك الحيّ الناطق، ذو الأبعاد المكانيّة والزّمانيّة، والذي تبرز فيه المشاعر النفسيّة والوجدانية، والحركات الفكرية للعناصر الحيّة في الصورة.
الصفة السادسة: الابتعاد عن الإِسفاف والابتذال والتشبيِه ما يَحْسُن في غير الكلام سَتْره، من العورات والمستقذرات.
الصفة السابعة: عدم التصريح بما يمكن أن يُدْرَكَ ذهْناً من القرائن.
الصفة الثامنة: البناءُ عَلى المشبَّهِ بهِ كأنَّهُ عَيْنُ المشبّه، إذْ يُنْزَلُ المشبَّه به منزلة المشبَّه، بعد أن سِيق لإِحضار المقصود من المشبَّهِ عن طريقه.
وهذه الصفة هي من صفات الأمثال القرآنيّة وخصائصها.
(5)
تقسيمات متعدّدات لأنواع وصُوَر التشبيهات
التقسيم الأول:
تقسيم التشبيه باعتبار ذكر أداة التشبيه ووَجْه الشَّبَهِ أو عَدَم ذِكْرِهما
يتعرّض التشبيه لأحوال مختلفة تتعلّق بذكر أداة التشبيه في اللّفظ وعدم ذكرها، وذكر وجه الشبه في اللفظ وعدم ذكره.
وينتج عن هذه الأحوال خمسة مصطلحات عن البيانيين، تتكوّن منها ثلاث صُور.
المصطلح الأول: "التشبيه المرسل" وهو التشبيه الذي ذكرت فيه أداةٌ من أدوات التشبيه.
المصطلح الثاني: "التسبيه المؤكَّد" وهو التشبيه الذي لم تُذْكَرْ فيه أداةٌ من أدوات التشبيه.
المصطلح الثالث: "التشبيه المفصّل" وهو التشبيه الذي ذُكِرَ فيه وجه الشبه.
المصطلح الرابع: "التشبيه المجمل" وهو التشبيه الذي لم يُذْكر فيه وَجْه الشبه.
المصطلح الخامس: "التشبيه البليغ" وهو التشبيه الذي لم تُذْكر فيه أداة التشبيه، ولم يُذْكَر فيه أيضاً وجْه الشبه.
ويتألف في التطبيق العمليّ من هذه المصطلحات الخمسة ثلاثُ صور، بمقتضى طبيعة التداخل:
الصورة الأولى: وهي الصورة الدُّنْيا في درجة الأبلغيّة على ما ذكَرُوا، وهي التي يكون التشبيه كلُّه فيها "مُرْسلاً مُفَصّلاً".
أي: هو التشبيه الذي ذُكرت فيه أداة التشبيه ووجه الشبه معاً، مثل قولنا: "خالدٌ كالأسد في الشجاعة والبأس".
الصورة الثانية: وهي الصورة الوسطى في درجة الأبلغية على ما ذكروا، وتأتي على وجْهَين:
(1) أن يكون التشبيه كلُّه "مُرْسلاً مُجْملاً" أي: ذكرت فيه أداة التشبيه، لكن لم يذكر فيه وجه الشبه، مثل قولنا: "خالد كالأسد".
(2) أن يكون التشبيه كُلُّه "مؤكّداً مفصّلاً" أي: لم تُذكَرْ فيه أداة التشبيه، لكن ذُكِر فيه وجه الشبه، مثل قولنا: "خالد أسَدٌ في الشجاعة والبأس".
الصورة الثالثة: وهي الصورة العليا في درجة الأبلغيّة على ما ذكروا، وهي التي يكون التشبيه كُلُّهُ فيها "مؤكّداً مُجْملاً" أي: لم تُذْكَرْ فيه أداة التشبيه، ولم يُذْكر فيه وجْهُ الشبه. مثل قولنا: "خالد أسد".
وتُسَمَّى هذه الصورة: "التَّشْبِيهَ البليغ".
أمثلة:
* من أمثلة الصورة الأولى التي يكون التشبيه فيها "مُرْسَلاً مُفَصّلاً" قول الشاعر:
*الْعُمْرُ مِثْلُ الضَّيْفِ أَوْ * كَالطَّيْفِ لَيْسَ لَهُ إقَامَة*
الْعُمْرُ: مُشَبّه.
مثل: أداة التشبيه.
الضيف - الطيف: مشبَّه به.
ليْسَ له إقامة: وجه الشبه.
هذا تشبيه "مرسلٌ مفصّل".
* ومن أمثلة الصورة الثانية التي يكون التشبيه فيها "مؤكّداً مفصّلاً أو "مرسلاً مجملاً" قول ابن المعتزّ:
*وَكَأَنَّ الشَّمْسَ الْمُنِيرَةَ دِينَا * رٌ جَلَتْهُ حَدَائِدُ الضَّرَّابِ*
جَلَتْه: أي: صقلته.
الضرَّاب: أي: الذي يَطْبَعُ النُّقود.
كأن: أداة التشبيه.
الشمس المنيرة: المشبَّه.
دِينارٌ جلته حدائد الضرّاب: مشبّه به.
هذا تشبيه "مرسل مجمل" ذكرت فيه أداة التشبيه ولم يذكر فيه وجه الشبه.
وقول البحتري يمدح أمير المؤمنين المتوكّل على الله.
*يَا ابْنَ عَمِّ النَّبِيّ حَقّاً ويَا أَزْ *كَى قُرَيْشٍ نَفْساً وَديناً وَعِرْضاً*
*بِنْتَ بالْفَضْلِ والْعُلُوِّ فَأصْبَحْـ * ـتَ سَمَاءً وأصْبَحَ النَّاسُ أَرْضاً
الممدوح: مُشَبَّه.
سماءً: مشبَّهُ به، وأداة التشبيه غير مذكورة.
بالفضل والْعُلُو: وَجْهُ الشبه.
هذا التشبيه "مؤكّد مفصّل" ذكر فيه وجه الشبه، ولم تُذْكَرْ فيه أداة التشبيه.
* ومن أمثلة الصورة الثالثة "التشبيه البليغ" الذي يكون التشبيه فيه "مؤكّداً مجملاً" قول الشاعر أبي القاسم الزّاهِي يصف حسناوات:
*سَفَرْنَ بُدُوراً. وانْتَقَبْنَ أَهِلَّةً * ومِسْنَ غُصُوناً. والْتَفَتْنَ جَآذِراً*
في هذا البيت أربعة تشبيهات هي من التشبيه البليغ، إذْ لَمْ يُذكَرْ فيها أداة التشبيه ولا وجْهُ الشَّبه.
مِسْنَ: أي: تمايَلْنَ تبخْتُراً واختيالاً.
جآذِراً: جمع "جُؤْذُر" وهو ولد البقرة الوحشية، والعرب تعجبهم عيون الجآذر، فَيُشَبِّهون بها.
وقول الآخر:
*فَاقْضُوا مَآرِبَكُمْ عِجَالاً إِنَّما * أَعْمَارُكُمْ سَفَرٌ مِنَ الأسْفَارِ*
شبّه الأعمار بالسَّفر، على طريقة التشبيه البليغ الذي لم تذكر فيه أَداة التشبيه، ولا وجه الشبه.
وقول المرقّش الأكبر (شاعر جاهلي):
*النَّشْرُ مِسْكٌ. والْوُجُوهُ دَنَا * نِيرٌ وَأَطْرَافُ الأَكُفِّ عَنَمٌ*
في هذا البيت ثلاثة تشبيهات هي من التشبيه البليغ، إذْ لم يذكر فيها أداة التشبيه وَلا وجْهُ الشبه.
النشر: الرائحة الطيبة.
الْعَنَم: نبات أملس له أزهار قِرْمِزِيّة، يُتَخَذُ خِضَاب، ويبدو أنّ الشاعر شبَّه أطراف أكفّ صَوَاحبه بأزهار هذا النبات على طريقة التشبيه البليغ، لا أنّه اعتبر أنّها مخضّبة بصِبْغ هذه الأزهار، وتقدير كلامه: وأطراف الأكُفّ أزْهارُ عَنَم.
ويرى البيانيون أنّ التشبيه البليغ يعتَمِد على المبالغة والإِغراق في ادّعاء أنَّ المشبَّه هو المشبَّهُ به نَفْسه، لذلك لا تُذْكَرُ فيه أداة التشبيه، ولا وجْهُ الشّبه.
ويرون أنّ التشبيه البليغ ذو مجالٍ واسعٍ لتسابق الْمُجِيدين من الأدباء والشعراء، وانتقاء روائع بديعة منه.
تقسيم التشبيه من جهة حسنة أو قبحه وقيمته
ينقسم التشبيه بالنظر إلى الْغَرَض المسُوقِ له إلى قِسْمَيْنِ أوّلَيْن:
القسم الأول: الْحَسَنُ المقبول.
القسم الثاني: القبيح المردود.
فالْحَسَنُ المقبول:
هو ما كان وافياً بالغرض الْمَسُوقِ له من النّاحيتين الفكريّة والجماليّة، وأمثلة هذا القسم كثيرة، لا داعي للاشتغال بها هنا.
والْحَسَنُ المقبول ينقسم إلى قِسْمَيْن:
* قريبٍ مبتذل.
* وبعيدٍ غريب.
والقبيح المردود:
هو ما لم يكن وافياً بالغرض الْمَسُوق له من النَّاحِيَتَيْنِ الفكريّة والجماليّة، أو من إحداهما.
ومن أسباب ذلك انعدامُ وجه الشبّه بين المشبَّهِ والمشبَّهِ به، أو خفاؤه جدّاً دون التَّنبيه عليه، أو كونُ معناه مُسْتَقْبَحاً مستكرهاً لا يَليقُ بكلامٍ أدبيّ رفيع، أو كونُه غثّاً هزيلاً لا يَدُلُ على حُسْنِ انتقاء واختيار بين بدائل الأفكار، إلى غير ذلك مما تمجُّه الأذواق الرفيعة، وتُبْعِدُهُ عن ساحَةِ الأدب المقبول، ولو من أدنى درجات "القريب المبتذل".
وأتركُ هنا للأدباء مجال تعرية القبيح المردود من التشبيهات، فالتحليل الأدبيّ الناقد مسؤولٌ عن تقديم الأمثلة ونقدها.
"القريب المبتذل والبيعد الغريب"
لاحظ البيانيون ما ينتج عمّا يكشفه النظر إلى قيمة التشبيه ودَرَجَتِه، بين مختلف التشبيهات ذوات القيم البيانيّة المختلفة، فانتهى بحثُهُمْ إلى تَحْدِيدِ مرتبتين رئيستَيْن للتشبيه، وتركوا تحديد درجات كلِّ مرتبةٍ منهما للأديب الباحث، ولاختلاف وجهات أنظار النُقَّاد:
المرتبة الدُّنيا: مرتبة القريب المبتذل، وفيها درجات يعْسُر ضبطها.
المرتبة العليا: مرتبة البعيد الغريب، وفيها درجات يَعْسُر ضبطها.
(أ) الشبيه القريب المبتذل:
هو ما يُنْتَقَلُ فيه من المشبَّهِ إلى المشبّه به من غير تدقيق نظر، ولا إمعان فكر، بل يظهر وجْهُه في بادي الرأي.
وقد نظر البيانيّون نظراتِ تحليل لاكتشاف أسباب كون التشبيه قريباً مُبْتَذَلاً، فظَهَرتْ لهم طائفةٌ من الأسباب أشاروا إليها دون أن يَحْصُروا كلَّ الأسباب بها:
السبب الأوّل: كون التشبيه معتمداً على النظرة الكليَّةِ الْمُجْمَلة، التي لم يصاحبها تفصيل ولا تحليلٌ للعناصر.
إنّ النظرة الكليّة المجملة الّتي لا تبحثُ في دقائق الأشياء وتفصيلات عناصرها وصفاتها هي النظرة الأولى الساذجة للإِنسان بحسب العادة، وهي نظرة يستوي فيها الصغير والكبير، والجاهل والعالم، والأديب وغيره، ويستطيع جميعهم في الغالب التعبير عن مرادهم بها.
لذلك تكون مبتذلةً في العادة، ولا تَدُلُّ على مَهَارة فكرية، ولا مقدرة بيانيَّةٍ في مجال التّشبيه.
فالتشبيه المعتمد على النظرة الكليّة الْمُجْمَلَة يكون غالباً من مرتبة القريب المبتذل.
إنّ النظرة الكليّة المجملة هي التي تجعل الطفل يُسَمّي الحصان إذا رآه حماراً، وقد يُسَمِّي الجمل إذا رآه حماراً، وكذلك البقرة، لأنَّ خِبْرَاتِه السَّابقات علّمَتْه شكل الحمار، وتعلّم مع ذلك أنّ اسمه حمار، فهو يرى الشكل العام للحصان والجمل والبقرة تمشي على أربع كما يمشي الحمار، فَيُسَمِّي كلاًّ منها حماراً، غير ناظر إلى الفروق الكثيرة التي تميّز كلّ نوعٍ عن الآخر.
من أجل هذا قالوا: النظرة الأولى حمقاء. ويقول العلماء بشأن من تُعْوِزُه الدقّة في أقواله وآرائه: لم يُنْعِم النظر في الأمر، ولم يُدَقِّق ولم يتأمَّلْ. أو يقولون: قال قَوْلَهُ أَوْ قَدَّمَ رأيه متعجّلاً دون أناة.
السبب الثاني: كون وجه الشَّبَه المنتزع من ركْنَي التشبيه قليل العناصر التفصيلية، سريع الْخُطُور على الأذهان في العادة.
أو كونُ المشبَّه به من الأشياء الّتي تَتَكَرَّرُ مُشَاهَدَتُها، فهي ممّا يُسَارع الذهن إلى التشبيه بها، كالشمس في الضياء والاستدارة، وكَالقَمَر في النور والحسن، وكاللَّيل في السّواد، وكالنّهار، في البياض، وكالمطر في صفة تقاطُره العام.
فمن الملاحظ أنّ الإِنسان العاديّ إذا أراد تشبيه شيء أَسْود خطر له بسرعة اللّيلُ والغراب، فيقول: هو كاللَّيل، أو كالغراب.
وإذا أراد تشبيه وجه جميل قال: هو كالقمر. وإذا أراد وصْفَ نَثْرِ النقود على جميع الناس قال: تناثرت عليهم كالمطر.
هذه تشبيهات قريبة مبتذلة، يتناولُهَا معظم الناس كما يتناولون الماء والهواء والكلأ، فليس لها قيمةٌ أدبيَّةٌ عالية.
السبب الثالث: كونُ المشبّه به ووجهِ الشّبه المنتزع منه مما تداول الشعراء والأدباء والكتّاب والخطباء، والمتحدّثون العاديُّونَ التشبيه به حتَّى ابْتُذِلَ واسْتُهْلِكَ.
كالتشبيه بالغزال في خفّة الحركة والرشاقة ودقّة الخصر، وكالتشبيه بالحمار في البلادة، والتشبيه بالبغل في الجلادة، والتشبيه بالكلب في اتباع صاحبه، والتشبيه بالخنزير في الخِسَّة وعدم الغيرة على إناثه.
إلى غير ذلك.
لكِنْ قد يتصرّف الأديب المتمرّس بفنون القول، في التشبيه القريب المبتذل، تصرُّفاً بديعاً يَرْفَعُهُ إلى المرتبة العليا "مرتبة البعيد الغريب" فمن هذا التصرف ما يلي:
(1) قول أبي الطيّب المتنبّي من قصيدة يمدح بها "هَارون بن عبد العزيز"
*لَمْ تَلْقَ هَذَا الْوَجْهَ شَمْسُ نَهَارِنا * إِلاَّ بِوَجْهٍ لَيْسَ فِيِ حَيَاءُ*
لقد تضمَّن هذا القول تشبيه وجه ممدوحه بالشمس، وهو تشبيه قريبٌ مبتذل، لكن أبا الطيب تصرّف فيه بطريقةٍ بديعة غريبة رفعت قيمته إلى المرتبة العليا، إذْ أدخل في التشبيه عناصر غير مأْلوفة، فقد أَبَانَ دُون إفصاح صريحٍ بالتشبيه أنَّه كان من واجب الأدب والحياء أن لا تظهر الشمس أمام وجهه لضآلة ضوئها في مقابل وجهه الوضّاء، لكنَّها غير ذات حياء، فمن أجل ذلك تَلْقَى الشمْسُ وجْهَهُ مع أنَّه أعظم منها ضياءً.
(2) قول الشاعر:
*فَرُدَّتْ عَلَيْنَا الشَّمْسُ واللَّيْلُ رَاغِمٌ * بشَمْسٍ لَهُمْ مِنْ جَانِبِ الْخِدْرِ تَطْلُعُ*
*فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَأَحْلاَمُ نَائِم * أَلَمَّتْ بِنَا أَمْ كَانَ فِي الرَّكْبِ يُوشَعُ*
تضمّن هذا القول تَشْبِيه مَنْ أُعْجِبَ الشاعر بجمال وجهها بالشمس، وهو تشبيه مبتذل، لكن أَدْخَل فيه عناصر رفعته من المرتبة الدنيا إلى المرتبة العليا، إذ وَصَفَ طلعةَ وجهها من جانب الخدر في اللَّيل على صورة مفاجئة تشعر بأنّ الشمس التي غابت أعيدت إلى الظهور، فهو في حَيْرَةٍ: هل هو نائم يَرَى حُلُماً، أو يُوشَعُ بن نون صاحب موسى موجود في الركب، ومن أجل طلبه أعيدت الشَّمْسِ للظهور، كما حصل له إِذِ استوقف الشمس على ما ذكروا.
(3) قول الشاعر الوطواط في ممدوحه:
*عَزَمَاتُهُ مِثْلُ النُّجُومِ ثَوَاقِباً * لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلثَّاقِبَاتِ أُفُولُ*
لقد رفع من قيمة هذا التشبيه إضافة الشاعر الاستدراك إليه، وهو كون النجوم الثواقب لها أفُول، أمّا ممدوحه فلا أُفولَ له.
قالوا: ويسمَّى هذا "التشبيه المشروط".
(4) ومن التشبيه المشروط الذي رفعته إضافة الشرط إلى المرتبة العليا، قول الشاعر في ممدوحه:
*يَكَادُ يَحْكِيكَ صَوْبُ الْغَيْثِ مُنْسَكِباً * لَوْ كَانَ طَلْقَ الْمُحَيَّا يُمْطِرُ الذَّهَبَا*
*والْبَدْرُ مَا لَمْ يَغِبْ والشَّمْسُ لَوْ نَطَقَتْ * والأُسْدُ لَوْ لَمْ تُصَدُ والْبَحْرُ لَوْ عَذُبَا*
(5) ومن التصرّف الحسن الذي رفع قيمة التشبيه المبتذل قول الشاعر:
*فِي طَلْعَةِ الْبَدْرِ شَيْءٌ مِنْ مَحَاسِنِهَا * ولِلْقَضِيبِ نَصيبٌ مِنْ تَثَنِّيَها*
(6) وقد يَخْرُج التشبيه من الابتذال بأن يجمع الشاعر بين عدّة تشبيهات بكلام واحد، كقول امرئ القيس يصف فرسه:
*لَهُ أَيْطَلاَ ظَبْيٍ وَسَاقَا نَعَامَةٍ * وَإِرْخَاءُ سِرْحَانٍ وَتَقْرِيبُ تَتْفُلِ*
له أَيْطَلاَ ظبي: أي: خاصِرَتا ظبْي فهو مُضَمَّر.
وساقا نعامة: أي: في الانتصاب والطول بالنسبة إلى الجسد.
وإرخاء سِرْحانٍ: أي: وعدوه كعَدْو الذئب، والإِرْخاء ضرب من عدو الذئب.
وتقريب تَتفل: التَّتْفُل: ولد الثعلب، والتقريب وضع الرجلين موضع اليدين في العدو.
(ب) التشبيه البعيد الغريب:
وهو ما يكون الانتقال فيه من المشبّه إلى المشبه به بدقيق النّظر، وإمعان الفكر، ولا يظهر وجهه في بادي الرأي.
وقد نظر البيانيّون نظراتِ تحليلٍ لاكتشاف أسباب كون بعض أمثلة التشبيه وصُوَره من البعيد الغريب، فظهرت لهم طائفة من الأسْبَاب أشاروا إليها دون أن يحصروا كلّ الأسباب بها:
السبب الأول: نُدْرَةُ خُطور المشبَّه بِه في أذهان معظم متذوّقي الأفكار الأدبية، والمهتمِّين باستدعاء الأشباه والنظائر.
سواءٌ أكانت هذه النُّدْرَى خاصّةً بحالة ذكر المشبّه أو حضوره في الذّهن، أو غير خاصّة بها.
فحين تكون المناسبة بين المشبّه والمشبّه به بعيدة، أو يكُونُ وجْهُ الشبه الجامع بينهما أمْراً دقيقاً خفيّاً، تكون نُدْرة خُطُورِ المشبَّهِ في الذهن لبُعْدِ المناسبة أو لخفاء وجه الشَّبَهِ بَيْنَ طرفي التشبيه.
وحين تكونُ نُدْرَةُ خُطُورِ المشبَّه به في الذِّهْن نُدْرَةً عَامَّة غَيْرَ خاصَّةٍ بحالة ذكر المشبه، فإنَّها تكونُ كذلك لواحد من أُمُورِ منها الأمور التالية:
(1) كون المشبّه به أمراً وهميّاً.
(2) كون المشبَّه به مُرَكَّباً خياليّاً.
(3) كون المشبَّه به أمْراً عَقْلِيّاً.
(4) كون المشبَّهِ به قَلِيلَ التكرُّرِ عَلَى الْحِسّ.
(5) كَوْنُ وَجْهِ الشَّبَّهِ مشتَمِلاً عَلى تفصيلٍ يُلاحَظُ فيه أكثر من وَصْف، ويقع على وجوه مختلفة يَعْسُرُ ضَبْطُها.
ويظهر من هذه الوجوه وجهان:
الوجه الأول: أنْ يَذْكُر عَاقِدُ التَّشْبِيه بعْضَ أجزاء المشبَّهِ به ويَعْزِلَ بَعْضَها الآخر، كما جاء في قول امرئ القيس:
*حَمَلْتُ رُدَينيّاً كَأَنَّ سِنَانَهُ * سَنَا لَهَبٍ لَمْ يَتَّصِلْ بِدُخَانِ*
فعَزَل امرؤ القيس الدُّخان عن سَنَا اللّهب لأنّه لا يدخل في التشبيه، وأثبت السَّنا وهو الضوء مفرداً.
ونظيره قول الشاعر الآخر: *"لَهَا حَدَقٌ لَمْ تَتَّصِلْ بِجُفُونِ"*
فذكر الحدق وعزل عنها الجفون.
الوجه الثاني: أنْ يُلاحِظَ عاقِدُ التَّشْبِيهِ أجْزَاءً مُتَعَدِّدة من المشبَّهِ، مُقَابَلَةً بأشباهها من أجزاء المشبَّه به، وكلّما كان التركيب من أمور أكثر كان التشبيه أبْعَدَ وأغرب.
ومثّلوا لهذا الوجه بقول: "أَبِي قَيْسِ بن الأَسْلَت" وقيل هو: لأُحَيْحَة بن الجلاح:
*وَقَدْ لاَحَ فِي الصُّبْحِ الثُّرَيَّا كَما تَرَى * كَعُنْقُودِ مُلاَّحيَّةٍ حِينَ نَوَّرَا*
كعُنْقُودِ مُلاَّحِيَّة: أي: كعُنْقُودِ عِنَبٍ من صِنْفُ "مُلاَحيّة" وهو عِنَبٌ أبيضُ في حبِّهِ طول، والأشْهَرُ في اسم "مُلاَحيّة" تخفيف الّلام.
فقد لاحظ الشاعر التشابه بين أجزاء الثُّريَّا بِعُنْقُودِ مُلاحيَّة حينَ نَوّرَ، أي: وضَحَ بياضُه من نضجه، فَحَبَّاتُ العنب في العنقود تشبهها النجوم في الثُّرَيَّا، وشكل العنقود بوجه عام يُشْبِهُهُ شَكْلُ الثُّرَيَّا، والفواصل بين نجوم الثّرَيَّا تشبه الفواصل الموجودة في العنقود.
أقول: ومن أبْدَع الأمثلة على هذا الوجه وأبلغها قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
وفي غير هذا الموضع تحليلُ هذا النصّ وما فيه من تشبيه بديع ذي عناصر متلاقيَة ملاحظة في المشبّه به معاً.
تقسيم التشبيه باعتبار أحوال طَرفيه (المشبَّه والمشبّه به)
نظر البيانيّون إلى أحوال طرفي التشبيه: (المشبّه والمشبّه به) فظهرت لهم أقسامٌ كثيرة، وهذه الأقسام ناتجة عن احتمالات كون كُلٍّ منهما مفرداً أو مُرَكّباً، واحتمالات كون كلٍّ منهما ممّا يُدْرَكُ بالحواسّ الظاهرة، أو بالوجدان والحواسّ الباطنة، أو بالفكر، فتحصّل لديهم من ذلك أقسامٌ وتشقيقات يحتاج الدارس لإِحصائها وإحصاء أمثلتها وتطبيقها كدّاً ذهنيّاً مُرْهِقاً.
وبعد البحث والتأمُّل لم أَجد في إرهاق ذِهْنِ دارس هَذا العلم، بإحصاء هذه الأقسام وتشقيقاتها، وتطبيق الأمثلة عليها، فائدةً ذاتَ قيمةٍ أدبيَّةٍ بيانيّة، تَنْفَعُ لدى دراسة النصوص الأدبيَّة الرَّفيعة، بغية إبراز جوانب إبداعها، أو تنفع لاكتساب مهارة إبداعيّة في نثر أو شعر، بَلْ رُبما تَصْرِفُ دراستُها ذِهْنَ الباحث عن جوانب الجمال والإِبداع إلى مُهمَّاتِ التحليل المخبري الّذي يهتَمُّ بدراسة عناصر الأشياء وتحليلها تحليلاً ذَرِّيّاً.
من أجل هذا آثَرْتُ الاقتصار على الأقسام الَّتِي يَسْهُلُ على الدارسِ استيعابُها، وقد ينتفع بها ضمن أغراض دراسة علم البيان.
وفيما يلي شرح ما آثرت الاقتصار عليه:
أوّلاً - "التشبيه البسيط والتشبيه المركب".
لاحظ البيانيون تقسيماً ناتجاً عن احتمال كون كلٍّ في التشبيه مفرداً أو مركبّاً فظهر لهم ما يلي:
إنّ تشبيه شيءٍ بشيءٍ قائم على ملاحظة وجود عنصر أو أكثر من عناصر التشابه بينهما، وبهذا ينقسم التشبيه إلى قسمين:
القسم الأول: التشبيه البسيط.
وهو التشبيه المشتمل على التشبيه بمفرد، لأنّ المشبَّه يُشابِه المشبَّه به بوجْهٍ من الوجوه، أو جانب من الجوانب، كتشبيه الجاهل بالأعْمَى، والعالم بالبصير، والْجَهْلِ بالظلمات، والْعِلْمِ بالنّور.
القسم الثاني: التشبيه المركّب، وهو المسمَّى "التمثيل".
وهو التشبيه الذي يكون على شكل لَوْحَةٍ تُصَوِّرُ أكْثر مِنْ مفرد، ووجه الشبه فيه لا يكون مأخوذاً من مفردٍ بعينه، بل يكون مأخوذاً منْه ومن غيره، أو من الصُّورةَ العامّة.
وهذا التشبيه المركب يكون على وجْهَيْن:
الوجه الأول: ما كان على شكل عناصر متلاقية تقابل أمثالَها في المشبَّهِ به، كتشبيه الإِنفاق في سبيل الله بإخلاصٍ، بالزّرع الَّذِي تُزْرَعُ فيه الحبُوبُ في أَرْضٍ طيّبَةٍ مُبَارَكَة، فَتُنْبِتُ الْحَبَّةُ منها سبع سنابل، في كُلّ سنْبُلةٍ مئة حبّة.
هنا نلاحظ أنّ الإِنفاق يشبه عملية الزرع، وتنمية الله له يُشْبه النبت الجيّد، ومضاعفة الأجر تشبه تكاثر السنابل من الحبّة الواحدة، وتكاثُر الحبِّ في كلّ سنبلة.
هذا التشبيه نجده في قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
* ومنه قول أبي فراس الحمداني يصف روضتَيْن مُزَيَّنَتَيْنِ بأنواع الزهور ذات الألوان المختلفة الزاهيَة، ويجري بينهما نَهْر صَافٍ:
*وَالْمَاءُ يَفْصِلُ بَيْنَ رَوْضِ الْـ * زَّهْرِ في الشَّطَّيْنِ فَصْلا*
*كَبِسَاطِ وَشْيٍ جَرَّدَتْ * أَيْدِي الْقُيُونِ عَلَيْهِ نَصْلاً*
فِي الشَّطَّيْن: أي: في جانِبَيْ ماء النهر الجاري.
الْوَشْي: النقْشُ في الثوب وغيره من ألوان مختلفة.
الْقُيُون: جمع "قَيْن" وهو الحدّاد الذي يصنع السيوف ونحوها من الأسلحة.
النصل: حديدة السيف ونحوه من الأسلحة، ومرد الشاعر هنا نصل السيف، لقوله: "جَرَّدَتْ" إذ السيف هو الذي يُجَرَّدُ من غِمْدِه.
إنّ وجه الشبه في هذا التشبيه منتزع من متعدِّدٍ في صورة واحدة، إلاَّ أننا لدى تحليل هذا التشبيه نلاحظ أنّه جاء على شكل عناصر متلاقية تُقابل أمْثَالَها في المشبه به.
فالنهر بين الروضتين يشبه السّيف المجرّد الصقيل المطروح في وسط البساط الموشَّى.
والروضة الواقعة على يمين النهر تشبه قِسْم البساط الواقع على يمين السيف المجرّد.
والروضة الواقعة على يسار النهر تشبه قسم البساط الواقع على يسار السيف المجرّد.
ودلّ تجريد القُيُونِ للسّيف على أنّه سَيْفُ جديد صقيل يتلامع، وهذا يدلُّ على أنّ ما النهر صافٍ شديد الصفاء، وهذا يدلُّ على أنّه نهر جارٍ من نبعٍ، فليس ماءً راكداً آسناً، وليس ماءَ سيل كدراً.
بهذا التحليل نلاحظ أنّ التشبيه الذي اشتمل عليه هذا القول هو من الْوَجْهِ الأول من وجْهَي التمثيل.
وهذا الوجه هو من روائع تشبيه التمثيل فيه أرى، وأبدع ما جاء منه ما جاء في الأمثال القرآنيّة، التي أوفيتها دراسة في كتاب "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع".
* ومنه قول بشّار بن بُرْد:
*كَأَنَّ مُثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤوسِنَا * وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُه*
مُثَارَ النَّقْعِ: أي: مُثَارَ الْغُبَار الَّذِي تَثِيرُهُ حوافر الْخَيْلِ وحَرَكَةُ القتال في الحرب.
تَهَاوَى: أي: تَتَهَاوَى.
فشبَّه صورة الْغُبَار المثار بحركة القتال والذي تتهاوى داخله أسْياف المقاتلين على أعدائهم بصورة لَيْلٍ تتهاوَى على الأرض كواكبه.
ووجه الشبه الجامع بينهما الهيئة الحاصلة من هُوِيَّ أجرامٍ مشرقة مستطيلة مُتَنَاسبة المقدار، ومتفرقة، في جوانب شيءٍ مظلم، وتظهر فيها الحركة التي زادت التمثيل حسناً.
ولدى التحليل نلاحظ أنّ التشبيه المركّب قد جاء في شكل عناصر متلاقية في المشبّه، تقابل أمثالها في المشبّه به، ويتحصّل من ذلك هيئة كلّيّةٌ في صورة.
* ومنه قول أبي طالب الرَّقّي:
*وَكَأَنَّ أَجْرَامَ النُّجُوم لَوَامِعاً * دُرَرٌ نُثِرْتَ عَلى بِسَاطٍ أَزْرَقٍ*
فوجه الشبه هيئةٌ منتزعة من متعدّد، وهي الهيئة الحاصلة من تفرّق أجرامٍ متلألئَةٍ مستدير، صغار المقادير في مرأى العيون، على سطح جسم أزرق صافي الزُّرْقة.
ولدى التحليل نلاحظ أنّ هذا التشبيه المركّب قد جاء على شكل عناصر متلاقية في المشبه، تقابل أمثالها في المشبَّه بهن ويتحصّل من ذلك هيئةٌ كليّةٌ في صورة.
* ومنه قول عمرو بن كلثوم:
*تَبْنِي سَنَابِكُهَا مِنْ فَوْقِ أرْؤُسِهِمْ * سَقْفاً كَواكِبُهُ الْبِيضُ الْمبَاتِيرُ*
سَنَابِكُها: أي سَنَابِكُ الخيل. جمع "سُنْبُك" وهو طرف الحافر.
البيض الْمَباتِير: أي: السُّيوف القواطع، يقال: سيف بتّار ومِبْتار.
وجه الشبه هيئة منتزعة من متعدّد، والتشبيه هنا جاء على شكل عناصر متلاقية في المشبّه، تقابل أمثالها في المشبه به، ويتحصّل من ذلك هيئة كليّةٌ في صورة.
الوجه الثاني: مَا كَانَ عَلى شَكْلِ وَحْدَةٍ مُرَكَّبَةٍ مُتَداخِلَةٍ تُعْطِي بجملَتِها وجْهَ الشبه، دُونَ مُلاحظةِ التقابل الجزئي بين المشبّه والمشبّه به.
* كالمثل الذي ضربه الله عزّ وجلّ لفريق من المنافقين، بقوله في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}.
تضمَّن هذا التمثيل تشبيهاً لحالة الصنف الأشد من صنفي المنافقين، وهو الصنف الذي مرَد على النفاق، بعد رُؤيته أضواءَ هداية القرآن، وسماعه إنذارات عذاب الله للكافرين، ولمَّا مَرَد على النفاق ملتزماً الثبات في موقع الكفر، طمَسَ الله بصيرته بقانونه القدريّ الذي اتّخذ هو أسبابه.
شبّه الله عزّ وجلّ الصّورة الكليّة لهذا الصنف بصورة من استوقد ناراً في مفازة مظلمة مُوحِشة ضمن ليل دامس، فلمّا أضاءت هذه النار ما حوله من أرض المفازة، ورأى صراطه، وعرف سبيل هدايته، ووجد أنه على غير ما يَهْوَى ويشتهي، اتَّخَذ وسيلةً أبْعَدَ بها عنه شعاع الضوء، رافضاً الاهتداء بالنور، مُتَأَبِّياً أن يسْلُكَ الصراط المستقيم إصراراً على الباطل، ومعاندةً للحق، فوقع عليه قانون ذهاب النُّور الذي تَسَبّب هو في إذهابه، فأمْسَى كالأصَمّ الأبْكمِ الأعمى، غير مُسْتَعِدٍّ لأَنْ يَرْجِع إلى مواطن النور.
هذا تشبيه من قسم "التمثيل" فوجه الشّبه فيه صورة منتزعة من متعدّد، والتشبيه قائم على تمثيل صورة ذات عناصر مختلفة بصورة ذات عناصر مختلفة، والجامع بينهما وجه شبه يمثّل أيضاً صورة منتزعة من عناصر متعدّدة.
* وكالمثل الذي ضربه الله عزّ وجلّ لفريق آخر من المنافقين عقب المثل السابق بقوله تعالى في السورة المذكورة:
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي? آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
الصيّب: المطرُ الغزير، أو السحاب الممطر مطراً غزيراً.
هذا تمثيل لفريق آخر من المنافقين لم تنطمس بصيرته انطماساً تامّاً، بل يتلامح له نور الحقّ أحياناً، فيراه، فيسير فيه قليلاً، ويَسْمَعُ إنْذَارات آيات الله أحياناً، فَيَرْهَبُ، لكنَّه إذا اشتدّت عليه سَدَّ سَمَعَهُ عنها، فيعود إلى حالته الأولى.
هذا الفريق من المنافقين صنف متردد مذبذبٌ حيران، لم يستقِرَّ نهائيّاً في موقع الكفر، ولم يحب أن يختار بحزم موقع الإِيمان والعمل بمقتضاه، فصورة حالته العامّة، تشبه صورة جماعَةٍ في مفازة مُظْلِمة بليلٍ دامسٍ، جَاءَهُمْ سحابٌ مُمْطِرٌ، فأمطر عليهم مطراً غزيراً، فأصابتهم الحيرة يبتغون النجاة، ورافق ذلك رعْدٌ وبرقٌ، فكانوا ضمن هذا الحدَثِ على مفازتِهِمْ في مَطَرٍ غزيرٍ مخيفٍ، وظُلُمَاتٍ مُوحشات، ورعْدٍ يثير الرُّعْب، وبرقٍ يتلامع بالضَّوْء.
فَهُمْ كُلَّمَا تواتَرَ عليهم الرّعْدُ الشديد المخيف القاذف بالصواعق، يجعلون أصابعهم في آذانهم خوفاً من الصواعق أن تأتيهم بالموت، وكلَّما أضاء لهم البرق مَشَوْا فيه على قَدْرِ مَا يكشف لهم ومِيضُه، فخُطُواتُهم على طريق الهدى قليلة بقَدْر الومضات، وكُلَّمَا انْتَهَتْ ومَضَاتُهُ السَّرِيعات الخاطفات تَوَقَّفُوا في مواقِعهم حَيَارَى، لا يدرون كيف يَتَصَرَّفون.
إنَّ أهل هذا الصنف من المنافقين لم يَصِلُوا إلى مرحلة العناد والإصرار على الكفر، كما وصَلَ الصنف الأوّل، بل ما زالت لدَيْهم بقيّةُ خَيْرٍ تَنْزِعُ في داخلهم إلى الاستجابة لدعوة الحق، لكنَّها بقيّة ضعيفة.
لذلك فهم لم يَصِلُوا بَعْدُ إلى حضيض: {صُمٌّ بُكْمٌّ عُمْيٌّ فَهُمْ لاَ يَرْجعُونَ} كما وَصَل إليه أهل الصنف الأول، بل هم في مستوى: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} لكنّ الله عزّ وجلّ حكيم رحيم لا يَطْمِسُ أسماعهم وأبصارهم حتَّى يتخذوا بأنفسهم أسباب ذلك.
منبع الكتب :البلاغة العربية عبد الرحمن الميداني